سورة البقرة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة تكلم بعدهما في المعاد وبين عقاب الكافر وثواب المطيع ومن عادة الله تعالى أنه إذا ذكر آية في الوعيد أن يعقبها بآية في الوعد وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن مسألة الحشر والنشر من المسائل المعتبرة في صحة الدين والبحث عن هذه المسألة إما أن يقع عن إمكانها أو عن وقوعها، أما الإمكان فيجوز إثباته تارة بالعقل، وبالنقل أخرى، وأما الوقوع فلا سبيل إليه إلا بالنقل، وإن الله ذكر هاتين المسألتين في كتابه وبين الحق فيهما من وجوه: الوجه الأول: أن كثيراً ما حكى عن المنكرين إنكار الحشر والنشر، ثم إنه تعالى حكم بأنه واقع كائن من غير ذكر الدليل فيه، وإنما جاز ذلك لأن كل ما لا يتوقف صحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه أمكن إثباته بالدليل النقلي، وهذه المسألة كذلك فجاز إثباتها بالنقل، مثاله ما حكم هاهنا بالنار للكفار، والجنة للأَبرار، وما أقام عليه دليلاً بل اكتفى بالدعوى، وأما في إثبات الصانع وإثبات النبوة فلم يكتف فيه بالدعوى بل ذكر فيه الدليل، وسبب الفرق ما ذكرناه وقال في سورة النحل: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى وعداً عَلَيْهِ حَقّا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُون} [النحل: 38] وقال في سورة التغابن: {زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7].
الوجه الثاني: أنه تعالى أثبت إمكان الحشر والنشر بناءً على أنه تعالى قادر على أمور تشبه الحشر والنشر، وقد قرر الله تعالى هذه الطريقة على وجوه، فأجمعها ما جاء في سورة الواقعة فإنه تعالى ذكر فيها حكاية عن أصحاب الشمال أنهم كانوا يقولون {أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون}، فأجابهم الله تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّ الأولين والأخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الواقعة: 47-50] ثم إنه تعالى احتج على إمكانه بأمور أربعة: أولها: قوله: {أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} [الواقعة: 58-59] وجه الاستدلال بذلك أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في آفاق أطراف الأعضاء ولهذا تشترك الأعضاء في الالتذاذ بالوقاع بحصول الانحلال عنها كلها، ثم إن الله تعالى سلط قوة الشهوة على البقية حتى أنها تجمع تلك الأجزاء الطلية، فالحاصل أن تلك الأجزاء كانت متفرقة جداً، أولاً في أطراف العالم، ثم أنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان، ثم إنها كانت متفرقة في أطراف بدن ذلك الحيوان فجمعها الله سبحانه وتعالى في أوعية المني، ثم إنه تعالى أخرجها ماء دافقاً إلى قرار الرحم فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكون منها ذلك الشخص، فإذا افترقت بالموت مرة أخرى فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى؟ فهذا تقرير هذه الحجة، وإن الله تعالى ذكرها في مواضع من كتابه، منها في سورة الحج: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ} [الحج: 5] إلى قوله: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} [الحج: 5] ثم قال: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّهُ يُحْىِ الموتى وَأَنَّهُ على كُلّ شَيء قَدِيرٌ وَأَنَّ الساعة ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} [الحج: 6، 7] وقال في سورة قد أفلح المؤمنون بعد ذكر مراتب الخلقة: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16] وقال في سورة لا أقسم: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى} [القيامة: 37، 38] وقال في سورة الطارق: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ} [الطارق 5- 7] إلى قوله: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8].
وثانيها: قوله: {أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أأنتم تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة: 63-64] إلى قوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 67] وجه الاستدلال به أن الحب وأقسامه من مطول مشقوق وغير مشقوق، كالأرز والشعير، ومدور ومثلث ومربع، وغير ذلك على اختلاف أشكاله إذا وقع في الأرض الندية واستولى عليه الماء والتراب، فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفن ويفسد، لأن أحدهما يكفي في حصول العفونة، ففيهما جميعاً أولى، ثم إنه لا يفسد بل يبقى محفوظاً، ثم إذا ازدادت الرطوبة تنفلق الحبة فلقتين فيخرج منها ورقتان، وأما المطول فيظهر في رأسه ثقب وتظهر الورقة الطويلة كما في الزرع، وأما النوى فما فيه من الصلابة العظيمة التي بسببها يعجز عن فلقه أكثر الناس إذا وقع في الأرض الندية ينفلق بإذن الله، ونواة التمر تنفلق من نقرة على ظهرها ويصير مجموع النواة من نصفين يخرج من أحد النصفين الجزء الصاعد، ومن الثاني الجزء الهابط، أما الصاعد فيصعد، وأما الهابط فيغوص في أعماق الأرض، والحاصل أنه يخرج من النواة الصغيرة شجرتان: إحداهما: خفيف صاعد، والأخرى ثقيل هابط مع اتحاد العنصر واتحاد طبع النواة والماء والهواء والتربة أفلا يدل ذلك على قدرة كاملة وحكمة شاملة فهذا القادر كيف يعجز عن جمع الأجزاء وتركيب الأعضاء. ونظيره قوله تعالى في الحج: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5].
وثالثها: قوله تعالى: {أَفَرَءيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ أأنتم أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} [الواقعة: 68، 69] وتقديره أن الماء جسم ثقيل بالطبع، وإصعاد الثقيل أمر على خلاف الطبع، فلابد من قادر قاهر يقهر الطبع ويبطل الخاصية ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول.
وثانيها: أن تلك الذرات المائية اجتمعت بعد تفرقها.
وثالثها: تسييرها بالرياح.
ورابعها: إنزالها في مظان الحاجة والأرض الجرز، وكل ذلك يدل على جواز الحشر.
أما صعود الثقيل فلأنه قلب الطبيعة، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يظهر الحياة والرطوبة من حساوة التراب والماء؟ والثاني: لما قدر على جمع تلك الذرات المائية بعد تفرقها فلم لا يجوز جمع الأجزاء الترابية بعد تفرقها؟ والثالث: تسيير الرياح فإذا قدر على تحريك الرياح التي تضم بعض تلك الأجزاء المتجانسة إلى بعض فلم لا يجوز ههنا؟ والرابع: أنه تعالى أنشأ السحاب لحاجة الناس إليه فهاهنا الحاجة إلى إنشاء المكلفين مرة أخرى ليصلوا إلى ما استحقوه من الثواب والعقاب أولى واعلم أن الله تعالى عبر عن هذه الدلالة في موضع آخر من كتابه فقال في الأعراف لما ذكر دلالة التوحيد: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى} [الأعراف: 54] إلى قوله: {قَرِيبٌ مّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] ثم ذكر دليل الحشر فقال: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح} [الأعراف: 57] إلى قوله: {كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].
ورابعها: قوله: {أَفَرَءيْتُمُ النار التى تُورُونَ أأنتم أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنشئون} [الواقعة: 71، 72] وجه الاستدلال أن النار صاعدة والشجرة هابطة، وأيضاً النار لطيفة، والشجرة كثيفة.
وأيضاً النار نورانية والشجرة ظلمانية، والنار حارة يابسة والشجرة باردة رطبة، فإذا أمسك الله تعالى في داخل تلك الشجرة الأجزاء النورانية النارية فقد جمع بقدرته بين هذه الأشياء المتنافرة، فإذا لم يعجز عن ذلك فكيف يعجز عن تركيب الحيوانات وتأليفها؟ والله تعالى ذكر هذه الدلالة في سورة ياس فقال: {الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً} [ياس: 80].
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة أمر الماء والنار وذكر في النمل أمر الهواء بقوله: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظلمات البر والبحر} [النمل: 63] إلى قوله: {أمن يبدؤ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل: 64] وذكر الأرض في الحج في قوله: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} [الحج: 5] فكأنه سبحانه وتعالى بين أن العناصر الأربعة على جميع أحوالها شاهدة بإمكان الحشر والنشر.
النوع الثاني: من الدلائل الدالة على إمكان الحشر: هو أنه تعالى يقول: لما كنت قادراً على الإيجاد أولاً فلأن أكون قادراً على الإعادة أولى. وهذه الدلالة تقريرها في العقل ظاهر، وأنه تعالى ذكرها في مواضع من كتابه، منها في البقرة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] ومنها قوله في سبحان الذي: {وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً} [الإسراء: 49، 50] إلى قوله: {قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] ومنها في العنكبوت: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: 19] ومنها قوله في الروم: {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى} [الروم: 27] ومنها في ياس: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [ياس: 79]، النوع الثالث: الاستدلال باقتداره على السموات على اقتداره على الحشر. وذلك في آيات منها في سورة سبحان: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الأَسراء: 99] وقال في ياس: {أَوَ لَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم} [ياس: 81] وقال في الأحقاف: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَلَمْ يَعْيىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيىِ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلّ شَيء قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33] ومنها في سورة ق: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [ق: 3] إلى قوله: {رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كذلك الخروج} [ق: 11] ثم قال: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] النوع الرابع: الاستدلال على وقوع الحشر بأنه لابد من إثابة المحسن وتعذيب العاصي وتمييز أحدهما من الآخر بآيات، منها في يونس {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} [يونس: 4] ومنها في طاه: {إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 15] ومنها في ص: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ للَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ النار. أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الارض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 27، 28] النوع الخامس: الاستدلال بإحياء الموتى في الدنيا على صحة الحشر والنشر فمنها خلقه آدم عليه الصلاة والسلام ابتداء ومنها قصة البقرة وهي قوله: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كذلك يُحْيىِ الله الموتى} [البقرة: 73] ومنها قصة إبراهيم عليه السلام {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيىِ الموتى} [البقرة: 260] ومنها قوله: {أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] ومنها قصة يحيى وعيسى عليهما السلام فإنه تعالى استدل على إمكانهما بعين ما استدل به على جواز الحشر حيث قال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] ومنها في قصة أصحاب الكهف ولذلك قال: {لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21] ومنها قصة أيوب عليه السلام وهي قوله: {وآتيناه أهله} [الأنبياء: 84] يدل على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا ومنها ما أظهر الله تعالى على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى حيث قال: {ويحيي الموتى} [الحج: 6] وقال: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى} [المائدة: 110] ومنها قوله: {أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم: 67] فهذا هو الإشارة إلى أصول الدلائل التي ذكرها الله تعالى في كتابه على صحة القول بالحشر، وسيأتي الاستقصاء في تفسير كل آية من هذه الآيات عند الوصول إليها إن شاء الله تعالى، ثم إنه تعالى نص في القرآن على أن منكر الحشر والنشر كافر، والدليل عليه قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} [الكهف: 35-37] ووجه إلزام الكفر أن دخول هذا الشيء في الوجود ممكن الوجود في نفسه، إذ لو كان ممتنع الوجود لما وجد في المرة الأولى فحيث وجد في المرة الأولى علمنا أنه ممكن الوجود في ذاته، فلو لم يصح ذلك من الله تعالى لدل ذلك إما على عجزه حيث لم يقدر على إيجاد ما هو جائز الوجود في نفسه، أو على جهله حيث تعذر عليه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن المكلف الآخر، ومع القول بالعجز والجهل لا يصح إثبات النبوة فكان ذلك موجباً للكفر قطعاً والله أعلم.
المسألة الثانية: هذه الآيات صريحة في كون الجنة والنار مخلوقتين، أما النار فلأنه تعالى قال في صفتها: {أُعِدَّتْ للكافرين} فهذا صريحة في أنها مخلوقة وأما الجنة فلأنه تعالى قال في آية أخرى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ولأنه تعالى قال هاهنا: {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} وهذا إخبار عن وقوع هذا الملك وحصوله وحصول الملك في الحال يقتضي حصول المملوك في الحال فدل على أن الجنة والنار مخلوقتان.
المسألة الثالثة: اعلم أن مجامع اللذات إما المسكن أو المطعم أو المنكح فوصف الله تعالى المسكن بقوله: {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} والمطعم بقوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} والمنكح بقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} ثم إن هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم منغصاً فبين تعالى أن هذا الخوف زائل عنهم فقال: {وَهُمْ فِيهَا خالدون} فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرر. ولنتكلم الآن في ألفاظ الآية.
أما قوله تعالى: {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} ففيه سؤالات:
الأول: علام عطف هذا الأمر؟
والجواب من وجوه:
أحدها: أنه ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه. إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والضرب، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق.
وثانيها: أنه معطوف على قوله: {فاتقوا} كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم.
وثالثها: قرأ زيد بن علي {وَبَشّرِ} على لفظ المبني للمفعول عطفاً على أعدت.
السؤال الثاني: من المأمور بقوله وبشر؟ والجواب يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون كل أحد كما قال عليه الصلاة والسلام: «بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» لم يأمر بذلك واحد بعينه، وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل، لأنه يؤذن بأن هذا الأمر لعظمته وفخامته حقيق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به.
السؤال الثالث: ما البشارة؟
الجواب: أنها الخبر الذي يظهر السرور، ولهذا قال الفقهاء إذا قال لعبيده: أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى عتق أولهم، لأنه هو الذي أفاد خبره السرور ولو قال مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعاً لأنهم جميعاً أخبروه، ومنه البشرة لظاهر الجلد، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه، وأما {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فمن الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك.
أما قوله: {الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية تدل على أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان لأنه لما ذكر الإيمان ثم عطف عليه العمل الصالح وجب التغاير وإلا لزم التكرار وهو خلاف الأصل.
المسألة الثانية: من الناس من أجرى هذه الآية على ظاهرها فقال: كل من أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فله الجنة. فإذا قيل له ما قولك فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم كفر قال إن هذا ممتنع لأن فعل الإيمان والطاعة، يوجب استحقاق الثواب الدائم، وفعل الكفر استحقاق العقاب الدائم، والجمع بينهما محال، والقول أيضاً بالتحابط محال فلم يبق إلا أن يقال هذا الفرض الذي فرضتموه ممتنع، وإنما قلنا إن القول بالتحابط محال لوجوه:
أحدها: أن الاستحقاقين إما أن يتضادا أو لا يتضادا فإن تضادا كان طريان الطارئ مشروطاً بزوال الباقي، فلو كان زوال الباقي معللاً بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال.
وثانيها: أن المنافاة حاصلة من الجانبين فليس زوال الباقي لطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ بقيام الباقي، فإما أن يوجدا معاً وهو محال أو يتدافعا فحينئذٍ يبطل القول بالمحابطة.
وثالثها: أن الاستحقاقين إما أن يتساويا أو كان المقدم أكثر أو أقل، فإن تعادلا مثل أن يقال كان قد حصل استحقاق عشرة أجزاء من الثواب فطرأ استحقاق عشرة أجزاء من العقاب فنقول: استحقاق كل واحد من أجزاء العقاب مستقل بإزالة كل واحد من أجزاء استحقاق الثواب. وإذا كان كذلك لم يكن تأثير هذا الجزء في إزالة هذا الجزء أولى من تأثيره في إزالة ذلك الجزء ومن تأثير جزء آخر في إزالته فأما أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء الطارئة مؤثراً في إزالة كل واحد من الأجزاء المتقدمة فيلزم أن يكون لكل واحد من العلل معلولات كثيرة ولكل واحد من المعلولات علل كثيرة مستقلة، وكل ذلك محال، وإما أن يختص كل واحد من الأجزاء الطارئة بواحد من الباقي من غير مخصص فذلك محال لامتناع ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وأما إن كان المقدم أكثر فالطارئ لا يزيل إلا بعض أجزاء الباقي، فلم يكن بعض أجزاء الباقي أن يزول به أولى من سائر الأجزاء فأما أن يزول الكل وهو محال، لأن الزائل لا يزول إلا بالناقص. أو يتعين البعض للزوال من غير مخصص، وهو محال، أو لا يزول شيء منها وهو المطلوب، وأيضاً فهذا الطارئ إذا أزال بعض أجزاء الباقي فإما أن يبقى الطارئ، أو يزول.
أما القول ببقاء الطارئ فلم يقل به أحد من العقلاء.
وأما القول بزواله فباطل، لأنه إما أن يكون تأثير كل واحد منهما في إزالة الآخر معاً أو على الترتيب، والأول باطل لأن المزيل لابد وأن يكون موجوداً حال الإزالة، فلو وجد الزوالان معاً لوجد المزيلان معاً، فيلزم أن يوجدا حال ما عدما وهو محال وإن كان على الترتيب فالمغلوب يستحيل أن ينقلب غالباً، وأما إن كان المتقدم أقل فأما أن يكون المؤثر في زواله بعض أجزاء الطارئ، وذلك محال لأن جميع أجزائه صالح للإزالة، واختصاص البعض بذلك ترجيح من غير مرجح وهو محال، وإما أن يصير الكل مؤثراً في الإزالة فيلزم أن يجتمع على المعلول الواحد علل مستقلة وذلك محال، فقد ثبت بهذه الوجوه العقلية فساد القول بالإحباط، وعند هذا تعين في الجواب قولان: الأول: قول من اعتبر الموافاة، وهو أن شرط حصول الإيمان أن لا يموت على الكفر فلو مات على الكفر علمنا أن ما أتى به أولاً كان كفراً وهذا قول ظاهر السقوط.
الثاني: أن العبد لا يستحق على الطاعة ثواباً ولا على المعصية عقاباً استحقاقاً عقلياً واجباً، وهو قول أهل السنّة واختيارنا، وبه يحصل الخلاص من هذه الظلمات.
المسألة الثالثة: احتج المعتزلة على أن الطاعة توجب الثواب فإن في حال ما بشرهم بأن لهم جنات لم يحصل ذلك لهم على طريق الوقوع، ولما لم يمكن حمل الآية عليه وجب حملها على استحقاق الوقوع لأنه يجوز التعبير بالوقوع عن استحقاق الوقوع مجازاً.
المسألة الرابعة: الجنة: البستان من النخل والشجر المتكاتف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره كأنها سترة واحدة لفرط التفافها وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان، فإن قيل لم نكرت الجنات وعرفت الأنهار؟
الجواب: أما الأول فلأن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنات، وأما تعريف الأنهار فالمراد به الجنس كما يقال لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب يشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15] وأما قوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ} فهذا لا يخلو إما أن يكون صفة ثانية لجنات. أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل: إن لهم جنات لم يخل قلب السامع أن يقع فيه أن ثمار تلك الجنات أشباه ثمار الدنيا أم لا؟ وهاهنا سؤالات: السؤال الأول: ما وقع من ثمرة؟ الجواب فيه وجهان:
الأول: هو كقولك كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئاً حمدتك فموقع من ثمرة موقع قولك من الرمان فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية، لأن الرزق قد ابتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفردة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار.
الثاني: وهو أن يكون من ثمرة بياناً على منهاج قولك رأيت منك أسداً تريد أنت أسد، وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمرة أو الحبة الواحدة.
السؤال الثاني: كيف يصح أن يقولوا هذا الذي رزقنا الآن هو الذي رزقنا من قبل، الجواب: لما اتحد في الماهية وإن تغاير بالعدد صح أن يقال هذا هو ذاك أي بحسب الماهية فإن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص ولذلك إذا اشتدت مشابهة الابن بالأب قالوا إنه الأب.
السؤال الثالث: الآية تدل على أنهم شبهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك، فالمشبه به أهو من أرزاق الدنيا، أم من أرزاق الجنة؟ والجواب فيه وجهان:
الأول: أنه من أرزاق الدنيا، ويدل عليه وجهان:
الأول: أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، فإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ثم وجده أشرف مما ألفه أولاً عظم ابتهاجه وفرحه به، فأهل الجنة إذ أبصروا الرمانة في الدنيا ثم أبصروها في الآخرة ووجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا، والدليل الثاني: أن قوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا} يتناول جميع المرات فيتناول المرة الأولى فلهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة شيء لابد وأن يقولوا هذا الذي رزقنا من قبل، ولا يكون قبل المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة حتى يشبه ذلك به فوجب حمله على أرزاق الدنيا، القول الثاني: أن المشبه به رزق الجنة أيضاً والمراد تشابه أرزاقهم ثم اختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين:
الأول: المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص.
الثاني: المراد تشابهها في المنظر فيكون الثاني كأنه الأول على ما روي عن الحسن ثم هؤلاء مختلفون فمنهم من يقول الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم، فإن الرجل إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق به نفسه إلا بمثله، فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة ومنهم من يقول إنه وإن حصل الاشتباه في اللون لكنها تكون مختلفة في الطعم، قال الحسن يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف، وفي الآية قول ثالث على لسان أهل المعرفة، وهو أن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى: ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات لأرواح وعالم السموات وبالجملة يجب أن يصير روح الإنسان كالمرآة المحاذية لعالم القدس ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ولا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج، لما أن العلائق البدنية تعوق عن ظهور تلك السعادات واللذات، فإذا زال هذا العائق حصلت السعادة العظيمة والغبطة الكبرى، فالحاصل أن كل سعادة روحانية يجدها الإنسان بعد الموت فإنه يقول هذه هي التي كانت حاصلة لي حين كنت في الدنيا وذلك إشارة إلى أن الكمالات النفسانية الحاصلة في الآخرة هي التي كانت حاصلة في الدنيا إلا أنها في الدنيا ما أفادت اللذة والبهجة والسرورة وفي الآخرة أفادت هذه الأشياء لزوال العائق.
أما قوله: {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} ففيه سؤالان: السؤال الأول: إلام يرجح الضمير في قوله: {وَأُتُواْ بِهِ}؟
الجواب: إن قلنا المشبه به هو رزق الدنيا فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة يعني أتوا بذلك النوع متشابهاً يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلاً منه في الدنيا، وإن قلنا المشبه به هو رزق الجنة أيضاً، فإلى الشيء المرزوق في الجنة، يعني أتوا بذلك النوع في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضاً.
السؤال الثاني: كيف موقع قوله: {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} من نظم الكلام؟ والجاب: أن الله تعالى لما حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله: {قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} فالله تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله: {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} أما قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} فالمراد طهارة أبدانهن من الحيض والاستحاضة وجميع الأقذار وطهارة أزواجهن من جميع الخصال الذميمة، ولا سيما ما يختص بالنساء، وإنما حملنا اللفظ على الكل لاشتراك القسمين في قدر مشترك، قال أهل الإشارة.
وهذا يدل على أنه لابد من التنبه لمسائل.
أحدها: أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى منعك عن مباشرتها قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء فِي المحيض} [البقرة: 222] فإذا منعك عن مقاربتها لما عليها من النجاسة التي هي معذورة فيها فإذا كانت الأزواج اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن حال كونك ملوثاً بنجاسات المعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى.
وثانيها: أن من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون ولذلك فإن آدم لما أتى بالزلة أخرج منها.
وثالثها: من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تصح صلاته عند الشافعي رضي الله عنه، فمن كان على قلبه من نجاسات المعاصي أعظم من الدنيا كيف تقبل صلاته وهاهنا سؤالان: الأول: هلا جاءت الصفة مجموعة كالموصوف؟
الجواب: هما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلن والنساء فعلت.
ومنه بيت الحماسة:
فوإذا العذارى بالدخان تقنعت *** واستعملت نصب القدور فملت
والمعنى وجماعة أزواج مطهرة، وقرأ زيد بن علي: مطهرات وقرأ عبيد بن عمير: مطهرة يعني متطهرة.
السؤال الثاني: هلا قيل طاهرة؟
الجواب: في المطهرة إشعار بأن مطهراً طهرهن وليس ذلك إلا الله تعالى، وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب كأنه قيل إن الله تعالى هو الذي زينهن لأهل الثواب.
أما قوله: {وَهُمْ فِيهَا خالدون} فقالت المعتزلة الخلد هاهنا هو الثبات اللازم والبقاء الدائم الذي لا ينقطع واحتجوا عليه بالآية والشعر، أما الآية فقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] فنفي الخلد عن البشر مع أنه تعالى أعطى بعضهم العمر الطويل، والمنفي غير المثبت، فالخلد هو البقاء الدائم وأما الشعر فقول امرئ القيس:
وهل يعمن إلا سعيد مخلد *** قليل هموم ما يبيت بأوجال
وقال أصحابنا: الخلد هو الثبات الطويل سواء دام أو لم يدم واحتجوا فيه بالآية والعرف أما الآية فقوله تعالى: {خالدين فِيهَا أَبَداً} ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد لكان ذلك تكراراً وأما العرف فيقال حبس فلان فلاناً حبساً مخلداً ولأنه يكتب في صكوك الأوقاف وقف فلان وقفاً مخلداً فهذا هو الكلام في أن هذا اللفظ هل يدل على دوام الثواب أم لا؟ وقال آخرون العقل يدل على دوامه لأنه لو لم يجب دوامه لجوزوا انقطاعه فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة لأن النعمة كلما كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعاً في القلب وذلك يقتضي أن لا ينفك أهل الثواب البتة من الغم والحسرة والله تعالى أعلم.


{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
اعلم أنه بين بالدليل كون القرآن معجزاً أورد هاهنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً، فأجاب الله تعالى عنه بأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها ثم في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: عن ابن عباس أنه لما نزل: {يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ} [الحج: 73] فطعن في أصنامهم ثم شبه عبادتها ببيت العنكبوت قالت اليهود أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله المثل بهما فنزلت هذه الآية.
والقول الثاني: أن المنافقين طعنوا في ضرب الأمثال بالنار والظلمات والرعد والبرق في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} [البقرة: 17] والقول الثالث: أن هذا الطعن كان من المشركين قال القفال: الكل محتمل هاهنا، أما اليهود فلأنه قيل في آخر الآية: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه} وهذا صفة اليهود، لأن الخطاب بالوفاء وبالعهد فيما بعد إنما هو لبني إسرائيل وأما الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة المدثر {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} [المدثر: 31] الآية فأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، والذين كفروا يحتمل المشركين لأن السورة مكية فقد جمع الفريقان هاهنا.
إذا ثبت هذا فنقول: احتمال الكل هاهنا قائم لأن الكافرين والمنافقين واليهود كانوا متوافقين في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مضى من أول السورة إلى هذا الموضع ذكر اليهود، وذكر المنافقين، وذكر المشركين. وكلهم من الذين كفروا ثم قال القفال: وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب لأن معناه في نفسه مفيد.
المسألة الثانية: اعلم أن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم واشتقاقه من الحياة يقال حيي الرجل كما يقول نسي وخشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء. جعل الحيي لما يعتريه الانكسار والتغير منكسر القوة منغص الحياة، كما قالوا فلان هلك حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء، وذاب حياء، وإذا ثبت هذا استحال الحياء على الله تعالى لأنه تغير يلحق البدن، وذلك لا يعقل إلا في حق الجسم، ولكنه وارد في الأحاديث.
روى سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً».
وإذا كان كذلك وجب تأويله وفيه وجهان:
الأول: وهو القانون في أمثال هذه الأشياء؛ أن كل صفة ثبتت للعبد مما يختص بالأجسام فإذا وصف الله تعالى بذلك فذلك محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض مثاله أن الحياء حالة تحصل للإنسان لكن لها مبدأ ومنتهى، أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إلى القبيح، وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته، وكذلك الغضب له، علامة ومقدمة وهي غليان دم القلب، وشهوة الانتقام وله غاية وهو إنزال العقاب بالمغضوب عليه، فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ أعني شهوة الانتقام وغليان دم القلب، بل المراد تلك النهاية وهو أنزل العقاب، فهذا هو القانون الكلي في هذا الباب.
الثاني: يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت، فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال، وهذا فن بديع من الكلام، ثم قال القاضي ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتاً فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضاً عليه، وإنما يقال إنه لا يوصف به فأما أن يقال لا يستحي ويطلق عليه ذلك فمحال، لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه وما ذكره الله تعالى من كتابه في قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة وكذلك قوله: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] وكذلك قولك: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائزاً أن يطلق في المخاطبة فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال، ولقائل أن يقول: لا شك في أن هذه الصفات منفية عن الله سبحانه فكان الإخبار عن انتفائها صدقاً فوجب أن يجوز. بقي أن يقال إن الإخبار عن انتفائها يدل على صحتها عليه فنقول: هذه الدلالة ممنوعة وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء الصحة أيضاً كان ذلك أحسن من حيث أنه يكون مبالغة في البيان وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً.
المسألة الثالثة: اعلم أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ويدل عليه وجوه:
أحدها: إطباق العرب والعجم على ذلك أما العرب فذلك مشهور عندهم وقد تمثلوا بأحقر الأشياء، فقالوا في التمثيل بالذرة: أجمع من ذرة، وأضبط من ذرة، وأخفى من الذرة وفي التمثيل بالذباب: أجرأ من الذباب، وأخطأ من الذباب، وأطيش من الذباب، وأشبه من الذباب بالذباب، وألح من الذباب. وفي التمثيل بالقراد، أسمع من قراد، وأصغر من قراد. وأعلق من قراد. وأغم من قراد، وأدب من قراد، وقالوا في الجراد: أطير من جرادة، وأحطم من جرادة، وأفسد من جرادة. وأصفى من لعاب الجراد، وفي الفراشة: أضعف من فراشة، وأطيش من فراشة، وأجهل من فراشة، وفي البعوضة. أضعف من بعوضة، وأعز من مخ البعوضة، وكلفني مخ البعوضة، في مثل تكليف ما لا يطاق: وأما العجم فيدل عليه كتاب كليلة ودمنة وأمثاله، وفي بعضها: قالت البعوضة، وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها؛ يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير، فقالت النخلة: والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك.
وثانيها: أنه ضرب الأمثال في إنجيل عيسى عليه السلام بالأشياء المستحقرة، قال: مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة، فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان، فقال عبيد الزراع؛ يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟ قال: بلى، قالوا: فمن أين هذا الزوان؟ قال: لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة فدعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن. وأفسر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر، والقرية هي العالم، والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يعملون بطاعة الله تعالى، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس، والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله، وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين، وجميع عمّال الأثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك البكاء، وصريف الأسنان، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم، من كانت له أذن تسمع فليسمع، وأضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء: لو أن رجلاً أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول وجاء طير من السماء فعشش في فروعها فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره، ونجى من اقتدى به، وقال: لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة، وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم، وقال: قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح، وقال لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ولكن ادخروا ذخائركم عند الله وقال: نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يزرعن ولا يحصدن ومنهن من هو في جوف الحجر الأصم أو في جوف العود، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله؟ أفلا تعقلون، وقال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم، فظهر أن الله تعالى ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة وأما العقل فلأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال، وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شك أن الثاني يكون أكمل وأيضاً فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبيناً مكشوفاً، وإن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح، وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان، أما قولهم: ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى، قلنا هذا جهل، لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام لأنه قد أحكم جميعه، وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير، وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلاً لعباده من الصغير بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة، فإذا كان الأليق بها الذباب والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل، فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل بالذباب، ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل لبيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك وفي مثل ذلك كل ما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح.
المسألة الرابعة: قال الأصم: ما في قوله مثلاً ماصلة زائدة كقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} [آل عمران: 159] وقال أبو مسلم معاذ الله أن يكون في القرآن زيادة ولغو والأصح قول أبي مسلم لأن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبياناً وكونه لغواً ينافي ذلك، وفي بعوضة قراءتان: إحداهما: النصب وفي لفظة ما على هذه القراءة وجهان:
الأول: أنها مبنية وهي التي إذا قرنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شيوعاً وبعداً عن الخصوصية. بيانه أن الرجل إذا قال لصاحبه أعطني كتاباً أنظر فيه فأعطاه بعض الكتب صح له أن يقول أردت كتاباً آخر ولم أرد هذا ولو قاله مع ما لم يصح له ذلك لأن تقدير الكلام أعطني كتاباً أي كتاب كان.
الثاني: أنها نكرة قام تفسيرها باسم الجنس مقام الصفة، أما على قراءة الرفع ففيها وجهان:
الأول: أنها موصولة صلتها الجملة لأن التقدير هو بعوضة فحذف المبتدأ كما حذف في {تماماً على الذي أحسن} [الأنعام: 154].
الثاني: أن تكون استفهامية فإنه لما قال: {إِنَّ للَّهِ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} كأنه قال بعده ما بعوضة فما فوقها حتى يضرب المثل به، بل له أن يمثل بما هو أقل من ذلك كثيراً كما يقال فلان لا يبالي بما وهب، ما دينار وديناران، أي يهب ما هو أكثر من ذلك بكثير.
المسألة الخامسة: قال صاحب الكشاف: ضرب المثل اعتماده وتكوينه من ضرب اللبن وضرب الخاتم.
المسألة السادسة: انتصب بعوضة بأنه عطف بيان لمثلاً أو مفعول ليضرب ومثلاً حال من النكرة مقدم عليه أو ثاني مفعولين ليضرب مضمناً معنى يجعل، وهذا إذا كانت ما صلة أو إبهامية، فإن كانت مفسرة ببعوضة فهي تابعة لما هي تفسير له، والمفسر والمفسر معاً لمجموعهما عطف بيان أو مفعو


{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد إلى هذا الموضع فمن هذا الموضع إلى قوله: {يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم} [البقرة: 40] في شرح النعم التي عمت جميع المكلفين وهي أربعة: أولها: نعمة الإحياء وهي المذكورة في هذه الآية.
واعلم أن قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} وإن كان بصورة الاستخبار فالمراد به التبكيت والتعنيف، لأن عظم النعمة يقتضي عظم معصية المنعم، يبين ذلك أن الوالد كلما عظمت نعمته على الولد بأن رباه وعلمه وخرجه وموله وعرضه للأمور الحسان، كانت معصيته لأبيه أعظم، فبين سبحانه وتعالى بذلك عظم ما أقدموا عليه من الكفر، بأن ذكرهم نعمه العظيمة عليهم ليزجرهم بذلك عما أقدموا عليه من التمسك بالكفر ويبعثهم على اكتساب الإيمان، فذكر تعالى من نعمه ما هو الأصل في النعم وهو الأحياء، فهذا هو المقصود الكلي، فإن قيل لم كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم؟ قلنا لأن الأحياء الأول قد يعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن الكفر من قبل العباد من وجوه:
أحدها: أنه تعالى لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} موبخاً لهم، كما لا يجوز أن يقول كيف تسودون وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك أجمع من خلقه فيهم.
وثانيها: إذا كان خلقهم أولاً للشقاء والنار وما أراد بخلقهم إلا الكفر وإرادة الوقوع في النار، فكيف يصح أن يقول موبخاً لهم كيف تكفرون؟.
وثالثها: أنه كيف يعقل من الحكيم أن يقول لهم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} حال ما يخلق الكفر فيهم ويقول: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ} [الإسراء: 94] حال ما منعهم عن الإيمان ويقول: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20]، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وهو يخلق فيهم الأعراض ويقول: {أَنّى تُؤْفَكُونَ فأنى تُصْرَفُونَ} ويخلق فيهم الإفك والصرف ومثل هذا الكلام بأن يعد من السخرية أولى من أن يذكر في باب إلزام الحجة على العباد.
ورابعها: أن الله تعالى إذا قال للعبيد: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} فهل ذكر هذا الكلام توجيهاً للحجة على العبد وطلباً للجواب منه أو ليس كذلك؟ فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة فكان هذا الخطاب عبثاً، وإن ذكره لتوجيه الحجة على العبد، فللعبد أن يقول حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر. فالأول: أنك علمت بالكفر مني والعلم بالكفر يوجب الكفر.
والثاني: أنك أردت الكفر مني وهذه الإرادة موجبة له.
والثالث: أنك خلقت الكفر في وأنا لا أقدر على إزالة فعلك.
والرابع: أنك خلقت في قدرة موجبة للكفر.
والخامس: أنك خلقت في إرادة موجبة للكفر.
والسادس: أنك خلقت في قدرة موجبة للإرادة الموجبة للكفر ثم لما حصلت هذه الأسباب الستة في حصول الكفر والإيمان يوقف على حصول هذه الأسباب الستة في طرف الإيمان وهي بأسرها كانت مفقودة، فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سبباً كل واحد منها مستقل بالمنع من الإيمان، ومع قيام هذه الأسباب الكثيرة كيف يعقل أن يقال كيف تكفرون بالله؟.
وخامسها: أنه تعالى قال لرسوله قل لهم كيف تكفرون بالله الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة أعني نعمة الحياة وعلى قول أهل الجبر لا نعمة له تعالى على الكافر، وذلك لأن عندهم كل ما فعله الله تعالى بالكافر فإنما فعله ليستدرجه إلى الكفر ويحرقه بالنار، فأي نعمة تكون لله على العبد على هذا التقدير وهل يكون ذلك إلا بمنزلة من قدم إلى غيره صحفة فالوذج مسموم فإن ظاهره وإن كان لذيذاً ويعد نعمة لكن لما كان باطنه مهلكاً فإن أحداً لا يعده نعمة، ومعلوم أن العذاب الدائم أشد ضرراً من ذلك السم فلا يكون لله تعالى نعمة على الكافر، فكيف يأمر رسوله بأن يقول لهم كيف تكفرون بمن أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة، والجواب: أن هذه الوجوه عند البحث يرجع حاصلها إلى التمسك بطريقة المدح والذم والأمر والنهي والثواب والعقاب، فنحن أيضاً نقابلها بالكلام المعتمد في هذه الشبهة، وهو أن الله سبحانه وتعالى علم أنه لا يكون، فلو وجد لانقلب علمه جهلاً وهو محال ومستلزم المحال محال، فوقوعه محال مع أنه قال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} وأيضاً فالقدرة على الكفر إن كانت صالحة للإيمان امتنع كونها مصدراً للإيمان على التعيين إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد السؤال، وإن كان من الله فما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر، وإذا حصل ذلك المرجح وجب، وعلى هذا كيف لا يعقل قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} واعلم أن المعتزلي إذا طول كلامه وفرع وجوهه في المدح والذم فعليك بمقابلتها بهذين الوجهين فإنهما يهدمان جميع كلامه ويشوشان كل شبهاته وبالله التوفيق.
المسألة الثانية: اتفقوا على أن قوله: {وَكُنتُمْ أمواتا} المراد به وكنتم تراباً ونطفاً، لأن ابتداء خلق آدم من التراب وخلق سائر المكلفين من أولاده إلا عيسى عليه السلام من النطف، لكنهم اختلفوا في أن إطلاق اسم الميت على الجماد حقيقة أو مجاز والأكثرون على أنه مجاز لأنه شبه الموات بالميت وليس أحدهما من الآخر بسبيل لأن الميت ما يحل به الموت ولا بدّ وأن يكون بصفة من يجوز أن يكون حياً في العادة فيكون اللحمية والرطوبة وقال الأولون هو حقيقة فيه وهو مروي عن قتادة، قال كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى ثم أخرجهم ثم أماتهم الموتة التي لابد منها، ثم أحياهم بعد الموت. فهما حياتان وموتتان واحتجوا بقوله: {خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] والموت المقدم على الحياة هو كونه مواتاً فدل على أن إطلاق الميت على الموات ثابت على سبيل الحقيقة والأول هو الأقرب، لأنه يقال في الجماد إنه موات وليس بميت فيشبه أن يكون استعمال أحدهما في الآخر على سبيل التشبيه قال القفال: وهو كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الإنسان: 1] فبين سبحانه وتعالى أن الإنسان كان لا شيء يذكر فجعله الله حياً وجعله سميعاً بصيراً ومجازه من قولهم فلان ميت الذكر.
وهذا أمر ميت، وهذه سلعة ميتة، إذا لم يكن لها طالب ولا ذاكر قال المخبل السعدي:
وأحييت لي ذكرى وما خاملا *** ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
فكذا معنى الآية: {وَكُنتُمْ أمواتا} أي خاملين ولا ذكر لكم لأنكم لم تكونوا شيئاً {فأحياكم} أي فجعلكم خلقاً سميعاً بصيراً.
المسألة الثالثة: احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القبر، قالوا لأنه تعالى بين أنه يحييهم مرة في الدنيا وأخرى في الآخرة ولم يذكر حياة القبر ويؤكده قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16] ولم يذكر حياة فيما بين هاتين الحالتين، قالوا ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] لأنه قول الكفار، ولأن كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذر في صلب آدم عليه السلام حين استخرجهم وقال: {أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ} [الأعراف: 172] وعلى هذا التقدير حصل حياتان وموتتان من غير حاجة إلى إثبات حياة في القبر، فالجواب لم يلزم من عدم الذكر في هذه الآية أن لا تكون حاصلة، وأيضاً فلقائل أن يقول: إن الله تعالى ذكر حياة القبر في هذه الآية. لأن قوله في يحييكم ليس هو الحياة الدائمة وإلا لما صح أن يقول: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لأن كلمة ثم تقتضي التراخي، والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة الدائمة من غير تراخ فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلاً على حياة القبر كان قريباً.
المسألة الرابعة: قال الحسن رحمه الله قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} يعني به العامة، وأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات نحو ما حكى في قوله: {أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] إلى قوله: {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259] وكقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أحياهم} [البقرة: 243] وكقوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 55 56] وكقوله: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كذلك يُحْىِ الله الموتى} [البقرة: 73] وكقوله: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21] وكقوله في قصة أيوب عليه السلام: {وآتيناه أهله ومثلهم معهم} [الأنبياء: 84] فإن الله تعالى رد عليه أهله بعد ما أماتهم.
المسألة الخامسة: تمسك المجسمة بقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} على أنه تعالى في مكان وهذا ضعيف، والمراد أنهم إلى حكمة يرجعون لأنه تعالى يبعث من في القبور ويجمعهم في المحشر وذلك هو الرجوع إلى الله تعالى وإنما وصف بذلك لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم غيره كقولهم رجع أمره إلى الأمير، أي إلى حيث لا يحكم غيره.
المسألة السادسة: هذه الآية دالة على أمور:
الأول: أنها دالة على أنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الله تعالى فيبطل به قول أهل الطبائع من أن المؤثر في الحياة والموت كذا وكذا من الأفلاك والكواكب والأركان والمزاجات كما حكى عن قوم في قوله: {إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] الثاني: أنها تدل على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل العقلي الدال عليه، لأنه تعالى بين أنه أحيا هذه الأشياء بعد موتها في المرة الأولى فوجب أن يصح ذلك في المرة الثانية.
الثالث: أنها تدل على التكليف والترغيب والترهيب.
الرابع: أنها دالة على الجبر والقدر كما تقدم بيانه.
الخامس: أنها دالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال: {فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فبين أنه لابد من الموت ثم بين أنه لا يترك على هذا الموت. بل لابد من الرجوع إليه أما أنه لابد من الموت، فقد بين سبحانه وتعالى أنه بعد ما كان نطفة فإن الله أحياه وصوره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وصيره بصيراً بأنواع المنافع والمضار وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور، ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ويبقى مدة طويلة في اللحود كما قال تعالى: {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون: 100] ينادى فلا يجيب ويستنطق فلا يتكلم ثم لا يزوره الأقربون، بل ينساه الأهل والبنون. كما قال يحيى بن معاذ الرازي:
يمر أقاربي بحذاء قبري *** كأن أقاربي لم يعرفوني
وقال أيضاً: إلهي كأني بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها، وانصرف المشيعون عن تشييعها، وبكى الغريب عليها لغربتها، وناداها من شفير القبر ذو مودتها، ورحمتها الأعادي عند جزعتها، ولم يخف على الناظرين عجز حيلتها، فما رجائي إلا أن نقول: ما تقول ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون، ووحيد قد جفاه المحبون، أصبح مني قريباً وفي اللحد غريباً، وكان لي في الدنيا داعياً ومجيباً، ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجياً، فأحسن إلى هناك يا قديم الإحسان، وحقق رجائي فيك يا واسع الغفران.
وأما أنه لابد من الرجوع إلى الله فلأن سبحانه يأمر بأن ينفخ في الصور {فَصَعِقَ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] وقال: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] ثم يعرضون على الله كما قال: {وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا} [الكهف: 48] فيقومون خاشعين خاضعين كما قال: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} [طه: 108] وقال بعضهم: إلهنا إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا. ومن شدة الخوف شاحبة وجوهنا، ومن هول القيامة مطرقة رؤوسنا. وجائعة لطول القيامة بطوننا، وبادية لأهل الموقف سوآتنا، وموقرة من ثقل الأوزار ظهورنا، وبقينا متحيرين في أمورنا نادمين على ذنوبنا، فلا تضعف المصائب بإعراضك عنا، ووسع رحمتك وغفرانك لنا، يا عظيم الرحمة يا واسع المغفرة.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10